قد يدمن الانسان شيئاً لا يرغبه بدون وعيٍ منه، وكثيراً ما يحدث هذا، ولكنه يدمن عليه لأنه استجاب له بشكل متكرر لفترة كافية لتكوين السلوك الإدماني لديه، قد يدمن الانسان شخصاً ما عدوٌ له، وقد يدمن مشكلة ما، وقد يدمن علي حالة الأزمات، وقد يدمن علي الفقر، وقد يدمن الانسان أيضاً الخضوع للسلطة، وقد يدمن رئيسة المتنمّر في العمل والذي يكرهه، والسبب في ذلك يرجع إلي عدم قدرته علي قول لا واستجاباته المتكررة له، وقد يدمن الانسان أيضاً الجوع، وكثيراً ما انتشر هذا النوع من الإدمان والمعروف بـ ( إدمان فقدان الشهية ) بين السيدات اللائي يعانين من النحافة.
وإذا قمنا بتوسيع مفهوم الادمان أكثر سنجد انه ينسحب علي الكثير من الأشياء الأخرى في حياتنا، وسنجد أن الفشل ما هو إلا حالة إدمان علي الفشل، وأن الفقر ما هو إلا حالة إدمان للفقر، وأن الحاجة ما هي إلا نوع آخر من الإدمان، وسبق أن ألقينا الضوء علي هذا الجانب في مقال سابق كان بعنوان “إدمان الجفاف“.
المحتوى
الإدمان المستحث من الداخل والإدمان المستحث من الخارج
ان كل شيء نتعلّق به، سواءً كان جيداً أم سيئاً، بوعي أو بدون وعي منّا، رغبناه أم لم نرغبه، ما هو إلا إدمان من إدماناتنا المتعددة، وكثيرةً هي الأشياء التي تعلقنا بها وأدمناها وتعايشنا مع إدمانها، منها ما هو مستحث من داخلنا ومنها ما هو مستحث من خارجنا.
والإدمان المستحث من الداخل يكون مصدره الأساسي هو رغبة الإنسان وإرادته الحرة، أما الإدمان المستحث من الخارج يكون ناتج عن مصدر خارجي يؤثر علي رغبة الإنسان ويوجهه نحو إدمان شيء أو منتج بعينه بهدف جعله مستهلكاً لهذا المنتج، وهناك أمثلة كثيرة علي ذلك منها إدمان التبغ، وإدمان الكولا، وإدمان الشكولاتة وإدمان الوجبات السريعة .. وغيرها من أنواع الإدمان المتعمّد والموجّه الذي تستخدمه الشركات من أجل احتكار المستهلك وزيادة نسبة المبيعات.
والغاية عند هذه الشركات تبرر الوسيلة، فبالإضافة إلي أن المنتج نفسه يحتوي علي مواد إدمانية مثل الكافيين والنيكوتين، تجد أن هذه الشركات تلجأ إلي أنواع خطيرة جداً من الدعاية الغير مباشرة مثل وضع رسائل لا إدراكية مثلاً في بعض نسخ الأفلام بهدف غرس الرغبة في عقل المشاهد دون أن يدرك ذلك، ويشعر المشاهد وهو يشاهد الفيلم أنه ربما يريد أن يشرب كوكاكولا علي سبيل المثال، أو أنه ربما يريد أن يأكل شيئاً، أو ربما يريد أن يدخّن التبغ، وهذا النوع من الدعاية يعتمد علي علوم الدماغ وقوانين عمل العقل البشري، ويتم فيه ذرع الرغبة الملحة في داخل العقل الباطن للمستهلك لحثه علي شراء المنتج دون اي اذن أو وعي منه.
وربما لا نجد أي اعلانات مباشرة للتبغ، ولكن الأفلام والمسلسلات مليئة بالإعلانات الغير مباشرة التي تحث المشاهد علي التدخين وشراء التبغ، وهذا النوع من الاعلانات الغير مباشرة اكثر تأثيراً وأكثر فعالية من الاعلانات المباشرة، لأنه يستخدم الإيحاء ذرع الذكريات الوهمية وغرس الرغبة الملحة في العقل بدون إدراك المتلقي لذلك.
ولا شك أنها طريقة ميكيافيلية غير شريفة وغير شرعية لزيادة المبيعات، ولكنها للأسف الشديد منتشرة بفضل غياب الرقابة الواعية علي المنتجات، خصوصاً في بلادنا التي تمتصها تلك الشركات وتتغذى عليها.
العجز المقنّع
وكما يتسم الادمان بالشمول يتسم أيضاً بالعجز، بمعنى أن المدمن علي الشيء يعجز عن التخلّي عن ذلك الشيء، يعجز عن أن يضع حداً لاستخدامه المفرط أو لاستجاباته التي أصبحت تلقائية اوتوماتيكية لهذا الشيء، ويعجز عن قول لا عندما يناديه ذلك النداء، وأحياناً يعجز عن التفكير في ترك ذلك الشيء أو التفكير فيه كإدمان يسبب له الخسائر، أو التفكير فيه كمشكلة من أجل تجنّب الإزعاج. وكثيراً ما ترفض عقولنا الحقيقة لأنها مؤلمة، والعقول تكره الألم، وتتفنن في أشكال الرفض، تتفنن في خداعنا.
لذلك فان المدمن لا يعترف بعجزه برغم شعوره بالعجز عن ترك ما أدمن عليه، بل يتقنّع ويدّعي عكس ذلك تماماً، يدّعي أن كل شيء لايزال تحت السيطرة، واذا كان هناك شيئاً الآن ليس علي ما يرام فإنه سيتحسن في المستقبل، وهناك متسع كبير من الوقت في المستقبل لإصلاح ذلك الشيء.
وهكذا يخدعه عقله ويجعله يُمنّي نفسه بأنه قادر علي التحكم في الأمور، ويستمر في إماناته دون أي شعور بالذنب أو بتأنيب الضمير أو بالعجز، لأن كل من الشعور بالذنب وتأنيب الضمير والعجز تعبيراً عن الألم، والعقل لا يحب الألم، ويحاول دائماً أن يضع له حداً من خلال أسهل الطرق، وأسهل الطرق هي الهروب والتجنّب والإخفاء، لأن الطرق الأصعب تحتاج إلي مجهود يعتبره العقل ألماً أيضاً وعبئ جديد عليه. وهذا كله يرجع إلي نقطة ضعف خطيرة في العقل البشري وسبق أن اشرنا إليها في مقال سابق كان بعنوان “مشكلة العقل الظنّي“.
انسجام انواع الادمان مع بعضها البعض:
ومن سمات الإدمان أيضاً التناغم والانسجام بين موضوعاته، حيث ان الكثير من الناس لا يدمنون أمراً أو شيئاً واحداً، وإنما يمكن أن يدمن الشخص الواحد مجموعة من الإدمانات المتنوعة، وما يساعد علي ذلك هو أن الكثير من أنواع الادمان تتناسب وتنسجم مع بعضها البعض، وعلي سبيل المثال فان ادمان الجنس يرتبط في أغلب الأحيان بالإدمان علي تعاطي المخدرات والكحول، وكذلك نجد أن ادمان التدريبات البدنية مرتبط بكل من ادمان التهام الطعام أو ادمان فقدان الشهية للطعام، وكذلك نجد ان بعض مدمنين العمل مدمنين أيضا علي الانفاق، وان مدمنين القمار يدمنون تناول الطعام بإسراف، وادمان الوجبات السريعة يكون مرتبط بإدمان مشروبات مثل الكولا ومرتبط بإدمان الانفاق، وادمان التدخين مرتبط بإدمان المخدرات، وهكذا فإن بعض أنواع الإدمان تستثير بعضها بعضاً ويكون بينهما تناغم وانسجام مما يجعل الشخص المدمن متعدد الإدمانات ان جاز التعبير.
لذلك علينا ان نختبر أنفسنا لنرى ان كنّا مدمنين أم لا، ولكي نختبر أنفسنا علينا أن نفكر ولو قليلاً، في فكرة التخلّي عن كل ما اكتسبناه في حياتنا، منازلنا، سياراتنا، عملنا، إنجازاتنا، وحتى بلادنا وأسرنا، ونسأل أنفسنا، هل يمكننا أن نتخلّى عن كل ذلك ونتبرّع به للمحتاجين ثم نذهب إلي بلد جديدة لنبدأ فيها من جديد ؟
والإجابة بـ لا علي هذا السؤال لها عدد من الدلالات، منها أننا مدمنون، وغير واثقين بأنفسنا، وصورتنا الذاتية متدنية، ولا نعرف أنفسنا، ونجهل الكثير من المعارف التنويرية. وإذا كانت الفقرة السابقة صادمة صديقي القارئ، فإن مثل هذه الصدمات المعرفية هي ما يضعك علي طريق الاستنارة.
تم التحديث في 3 يونيو,2019 بواسطة موسوعة الإدمان