تقول الأديبة الإنجليزية “فيرجنيا وولف”: “للحظة، إدرس عقلاً عادياً في يوم عادي”، وفي هذه اللحظة سندرس معاً، العقل، ولا يوجد في الإنسان ما هو أعظم من العقل.
يتكون عقل الإنسان من نوعين رئيسيين ومختلفين من النشاط، هما النشاط الواعي والنشاط اللاواعي، أو جرت العادة علي ان يقال العقل الواعي والعقل اللاواعي أو العقل الظاهر والعقل الباطن. وسبق أن تحدثنا عن وظائف وقوة العقل الواعي، لذلك سنركز اليوم علي العقل اللاواعي.
هناك ارتباطاً قوياً بين جزئي العقل الواعي واللاواعي. فالعقل الواعي يستقبل ويدرك كل ما نراه، أو نسمعه، أو نمر به من أحداث، ثم يقوم العقل الباطن بعد ذلك باختزان تلك الأحداث في الذاكرة.
والعقل اللاواعي أو العقل الباطن هو ذلك العقل الذي يحتوى بداخلة علي كل السجلات الخاصة بالإنسان، وهو مرتبط بمسألة تكرار السلوك المكتسب، حيث يقوم اوتوماتيكياً بتكرار السلوك دون الحاجة إلي تفكير العقل الواعي، لأن السلوك يكون مخزناً سابقاً في داخل سجلاته، وهذا الأمر يساعدنا كثيراً في التعامل مع المواقف المختلفة بشكل أسرع عندما تتكرر علينا تلك المواقف.
وعندما نتعلم كيف نتعامل مع موقف ما، فمن السهل علينا أن نتعامل معه مرة أخرى لأننا نستخدم في المرة الثانية معلومات مختزنة لدينا قد اكتسبناها في المرة الأولى، وعلي سبيل المثال فاننا عندما نتعلّم كيف ننقل السرعات في السيارة فلن يفكر عقلنا بالنشاط الواعي مرة أخرى في الأمر، لأن المعلومات المختزنة تأتي للذهن آلياً من خلال النشاط اللاواعي عندما نواجه الموقف مرة ثانية.
وعندما نتعلّم أماكن الحروف علي لوحة المفاتيح، فاننا سنكتب عليها بعد ذلك دون حتى النظر إليها، لأننا نكون قد كوّنا في عقلنا اللاواعي صورة ذهنية لشكل هذه اللوحة ولأماكن المفاتيح. وهكذا فان المعلومات التي ندركها بواسطة العقل الواعي تغذي العقل اللاواعي وتتحول إلي برنامج نقوم بتنفيذه في كل مرة دون الرجوع إلي العقل الواعي.
ولا يحتزن العقل اللاواعي المعلومات الخاصة بالحدث أو السلوك فقط، بل يختزن أيضاً المشاعر والأحاسيس التي تصاحب وقوع هذا الحدث. فعلي سبيل المثال إذا افترضنا أن كلباً عضك، فسوف تعيش هذا الحدث بكل وقائعه، ثم تستشعر أيضاً مشاعر أخرى مصاحبة لهذا الحدث كالصدمة والخوف والألم. وبعد ذلك يختزن العقل اللاواعي هذه الواقعة، وهذه الأحاسيس.
وهذه الأمور المختزنة تؤثر علي سلوكنا في المواقف المشابهة لهذا الحدث، ففي المرة القادمة التي ترى فيها كلباً ستتصرف وفقاً لما هو مختزن لديك في الذاكرة، أي أنك ستشعر بالجزع والخوف، وعندما تمر بكلب في الطريق فستحاول ان تتجنب هذا الكلب.
وهكذا فان المعلومات والمشاعر المخزنة في داخل العقل اللاواعي او العقل الباطن تؤثر علينا حتى وان لم ندرك ذلك بعقلنا الواعي. فاذا كنت لا تتذكر ان كلباً عضك ورأيت كلباً في الشارع وشعرت بالخوف دون ان يهاجمك، فإن هذا الخوف علي الأرجح يكون ناتجاً عن موقف مخزن داخل عقلك الباطن لا تتذكره بعقلك الواعي ولكن عقلك الباطن لا ينساه.
ودعنا ننتقل إلي مثالاً آخراً لكي نوضح أكثر طريقة عمل عقلك. إذا افترضنا أن شخصاً ما كوالدك، أو والدتك، أو زوجتك، أو صديقك، أو رئيسك في العمل، أو أي شخص وثيق الصلة بك، أو له سلطان عليك، ظل يقول لك مراراً وتكراراً إنك شخص فاشل أو عديم القدرة، فانه وبرغم أن أتهامه هذا بغير أساس أو مبالغاً فيه، يتم اختزانه في عقلك الباطن بسبب تكراره، ويصاحبه شعور بالغضب، أو اليأس، أو الإكتئاب.
وعندما يستمر هذا الشخص في إلقاء هذا الإتهام عليك لمدة طويلة فسوف تشعر فعلاً بأنك فاشلاً، وغير قادر علي القيام بأي شئ بطريقة صحيحة، لأن هذه هي الرسالة التي ستستقبلها بشكل آلي من عقلك اللاواعي عندما تواجه أي موقف تريد أن تثبت فيه نفسك.
ويؤدي هذا الأمر بك إلي الدخول في حلقة مفرغة، حيث تصبح مقتنعاً بأنك فاشلاً، وتتصرف لا شعورياً وفقاً لهذا الإقتناع، ولأنك لا تواجه مواقف جديدة خارجة عن اطار برمجة عقلك فستشعر بالفشل، وبالتالي يتحقق الاتهام كنبوءة تثبت صحتها، برغم أنك ربما تكون عبقرياً من البداية.
كثيراً هم العباقرة الذين راحوا ضحايا للجهل والسلبية السائدين في مجتمعنا، واندثرت عبقريتهم ودُفنت وهي علي قيد الحياة. ولا شك ان وعيك بطريقة عمل عقلك سيجعلك تعرف كيف تحمي نفسك من تلك السلبية، وسيساعدك كل يوم علي برمجة عقلك إيجابياً.
تم التحديث في 27 مارس,2019 بواسطة موسوعة الإدمان