علمنا سقراط أن بإمكاننا علاج الآخرين بالمعرفة، من خلال المناقشة والتصحيح المعرفي المدروس. فعندما كان يناقش السفسطائيين الذين كانوا يدّعون من العلم ما ليس عندهم، ويخدعون ويضللون الناس بأكاذيبهم وجهلهم، وجد أن أفضل علاج يمكنه أن يعالج به أمراض السفسطائيين وجهلهم هو الجهل ذاته، واستخدم معهم اسلوبه البسيط والمعروف بالتهكم السقراطي، وهو طرح السؤال مع تصنع الجهل بالموضوع.
وبهذا الأسلوب البسيط حوّل الجهل إلي سلاح يستخدمه ليس فقط ضد السفسطائيين لدحض أدلتهم وحماية الناس من تضليلهم وادعائهم الكاذب بالعلم، وانما أستخدمه أيضاً لحماية السفسطائيين أنفسهم من جهلهم، بحيث يتم فضح تلاعبهم بالألفاظ ودحض حججهم باستخراج الحقائق من أنفسهم عن طريق طرح الأسئلة والاعتراضات، حتي يكتشف المحاور الحقيقة بنفسه، ومن ثم مساعدتهم في اكتشاف الحق بأنفسهم.
ولمعرفة اسلوب سقراط في طرح الاسئلة إليك عزيزي القارئ هذه المحاورة البسيطة بين سقراط وأحد محاوريه:
ففي احدى محاوراته جائه أحد محاوريه وقال له:
– أتعلم ما سمعت عن أحد طلابك ؟
– فقال سقراط : قبل أن تخبرني أود أن تجتاز امتحاناً صغيراً .. لنقف للحظة علي ما كنت ستقوله .. أولاً: هل أنت متأكد أن ما ستخبرني به صحيح ؟
– فقال: لا .. في الواقع سمعت الخبر.
– انت لست متأكد أن ما ستخبرني به صحيح أو خطأ ؟ ثانياً: هل ما ستخبرني به عن طالبي شيء طيب ؟
– فقال المحاور: لا .. لكن هو العكس.
– فقال سقراط: اذن انت ستخبرني بشيء سيء عن طالبي، علي الرغم من أنك لست متأكدا من أنه صحيح؟ ثالثاً: هل ما ستخبرني عن طالبي سيفيدني ؟
– فقال المحاور: في الواقع لا.
– فقال سقراط: اذن أنت ستخبرني بشئ ليس بصحيح ولا بطيب ولا بذي فائدة أو قيمة .. فما الداعي لإخباري به؟!
وهكذا بحكمة الفيلسوف، نظر سقراط إلي السفسطائيين علي أنهم ضحايا الجهل والمرض النفسي، ولم ينظر إليهم علي انهم اشرار ومجرمين، فليس كل من يخطأ أو يقع في الجهل شيطاناً، بل ان هناك سبباً ما لخطأه، هناك خطأً ما في تفكيره يحتاج إلي إعادة التصحيح. وكان سقراط يعرف عدوّه جيداً، وكان عدوّه هو الجهل الذي يرتدي زي المعرفة والمرض النفسي الناتج عن عدم الاعتراف بالجهل والانغلاق عن اكتساب المعارف الجديدة. وهكذا وجد سقراط لنفسه عدوا ليدمّره، عدواً يستحق عناء المعركة.
ليس الجهل ذاته عاراً لكي نخجل من الاعتراف به، بل ان العار هو عدم الاعتراف بالجهل، لأن الجهل هو الذي يقودنا إلي المعرفة، كما يقودنا الظلام الي معرفة معنى النور. والاعتراف بالجهل فضيلة وقوة التي تدفعنا علي طريق اكتساب المعارف الجديدة، وكيف يمكننا السعي لاستكشاف الحقائق الجديدة دون أن نعترف بجهلنا بها وبحاجتنا إليها ؟!.
اننا كائنات تحركها الحاجات والرغبات، واذا لم يكن لدينا شعور بالحاجة إلي المعرفة فإننا لن نسعى إليها إطلاقاً، وكذلك هي أيضاً، لن تسعى إلينا. لذلك كان سقراط يقول: ” كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئاً “، ولا شك أن هذا المبدأ وحده كفيل بأن يحوّل الإنسان من كائن لاهث وراء الشهوات والملذات، إلي كائن باحث عن المعرفة.
كان سقراط طبيباً نفسياً من قبل أن يولد الطب النفسي من رحم الفلسفة، وهو أول من أثبت أن المرض النفسي ما هو إلا نتاجاً لنقص المعرفة والأخطاء المعرفية، وأول من أثبت أيضاً أن المعرفة هي الدواء. وهو ما تم اثباته علمياً آلاف المرات علي مر التاريخ الذي تلى سقراط، ذلك الفيلسوف الذي عاش في الفترة ما بين عام 469 قبل الميلاد إلي 399 قبل الميلاد. وجدير بالذكر ان العلاج المعرفي في عصرنا نجح فعلياً ليس فقط في علاج معظم الأمراض النفسية بل والكثير من حالات السرطان والأمراض المستعصية، وليس هذا ايضاً إلا نتيجة لتطور المعرفة، فكلما تتزايد المعرفة كلما تضائل المرض.
إننا بحاجة ماسة إلي المعرفة لنداوي بها أمراض الناس وأمراض المجتمع، لذلك علينا أن نسعى باحثين لاكتساب المعرفة، وأن نعلّم أبنائنا قيمة المعرفة، وعلي المؤسسات في مجتمعنا أن تضخم أصوات الذين يقدمون المعارف التنويرية التي تبارك حياة الناس.
تم التحديث في 23 مايو,2019 بواسطة موسوعة الإدمان