في عصرنا تعددت الآراء والتفسيرات ووجهات النظر، وأصبح من الصعب الإتفاق علي رأي واحد بشأن موضوع واحد بسبب الإختلافات الكثيرة والكبيرة بين التفسيرات. وأدى ذلك إلي نشأة الكثير من التيارات والأحزاب والمذاهب، وفي كثير من الأحيان يحدث التصادم بين الآراء، ويقع الخلاف بين الأفراد والجماعات، ومن الخلاف تنشأ الصراعات والحروب وتسيل الدماء وتُزهق الأرواح.
ويرجع ذلك إلي وجود خلل في ثقافة الإختلاف، تلك القضية التي فشل المثقفون أنفسهم أو ما يطلق عليهم لفظ “المثقفون” في علاجها في مجتمعاتنا العربية، بدليل كثرة المذاهب والأحزاب المتعارضة وكثرة الخلافات التي نشأت وتفاقمت نتيجة للإفتقاد إلي ثقافة الإختلاف.
ولثقافة الإختلاف أبعاد نفسية وفلسفية، يجب إلقاء الضوء عليها وشرحها وصياغتها بطريقة سهلة، حتى يفهمها الأطفال قبل الكبار، وحتى يفهمها الماشي المتعجّل في مشيته بينما يطوف بلدان عالمنا العربي. إننا بلا شك في أمس الحاجة إلي ذلك إذا كنّا فعلاً صادقين في إصرارنا علي التعايش والبقاء وعدم الإنقراض.
سر الإختلاف:
فما هو سر إختلاف الآراء ووجهات النظر وتعدد التفسيرات بشأن الأمور والأشياء في هذا العالم ؟، وأين يكمن ذلك السر ؟
في عقل الإنسان توجد جميع الأسرار. ففي عقل كل انسان توجد شبكة معقدة من المفاهيم المرتبطة بكل شئ في الحياة، والتي تفسّر له كل شئ في الحياة. وهذه المفاهيم مترابطة حيث يتصل كل مفهوم بالآخر عن طريق “علاقة” معينة.
وجدير بالذكر أن كلمة “علاقة” تشير الي الروابط التي تربط بين شيئين مختلفين، وهي كلمة مطاطة جداً لأن “العلاقة” ليست شيئاً، وتتخذ العلاقات أشكال وتنوعات لا تحصى. ربما يفيد هذا في توسيع بعض المفاهيم.
وهكذا فإننا إذا تصوّرنا تلك الشبكة من المفاهيم والعلاقات المفاهيمية فإننا سنجد أنها تشبه شبكة العنكبوت، وهي معقدة لكثرة المفاهيم التي تفسر الحياة من حولنا، وهذا التفسير هو ما يكوّن الفلسفة الخاصة لكل إنسان في الحياة، وهذا التفسير وهذه الفلسفة الخاصة تشبه النظارة التي نرتديها لنري بها العالم.
وإذا كانت هذه النظارة خضراء فإننا سنري العالم أخضر، وإذا كانت النظارة بمبي فإننا سنرى العالم بمبي، وإذا كانت سوداء فاننا سنراه أسود. ولا يُلام المرء علي نظّارته التي يرى بها الحياة، أو بالأصح علي تفسيره للحياة، لأن الأمر يشبه المرض الشائع “عمى الألوان”، وهل يلام الشخص المريض بعمى الألوان علي أنه يرى الأحمر أسود والأخضر أبيض ؟! بالطبع لا يمكن ولا يحق لأحد لومه علي ذلك.
ويجب علينا أن نأخذ هذا بعين الإعتبار عندما نختلف مع الآخرين بشأن تفسيرهم للأمور والأشياء مهما صغرت تلك الأشياء أو عظمت. وأما الذين يقولون أن هناك معايير ثابتة وصارمة للفكر مثل المنطق، ويجعلون من المنطق سلاحاً يحاربون به بعضهم البعض من أجل تغليب رأي فئة علي رأي فئة أخرى، فإني أقول لهم وأنا أحد الدارسين والمدرّسين لعلم المنطق؛ أنتم تستخدمون سلاحاً قديما عتيقاً في عصر تقدّمت فيه الأسلحة وتنوعت وتطوّرت لأقصى مما تظنون، وأنكم تشبهون في ذلك المحارب الذي يحارب بالدرع والسيف والحصان في عصر المدافع الرشاشة والدبابات والقنابل النووية الفتاكة، لأن المنطق ليس إلا وظيفة واحدة من وظائف العقل، ولا يمكننا أن نحصر دور العقل في فعل التفكير المنطقي فحسب.
إننا مختلفون بالفطرة، ولا يوجد شخصين متشابهين في هذا العالم، لأن الله واحد وخلق كل واحدٍ منّا واحداً فقط لا يوجد له شبيه آخر. والإختلاف يثرينا ويثري حياتنا، وإذا كان هناك سبب واحد فقط لتقدم الأمم والمجتمعات فإن هذا السبب سيكون هو الإختلاف.
تم التحديث في 13 مارس,2019 بواسطة موسوعة الإدمان