عقل الإنسان ذو طبيعة مزدوجة تشبه طبيعة الكون الذي نعيش فيه، والذي يجمع بين الليل والنهار، والحرارة والبرودة، والمتعة والمعاناة، والذكر والأنثى، والناعم والخشن، وكل تلك المتناقضات يحكمها قانون التناغم الكوني والذي يجعلها تعمل معاً في تناغم وانسجام. هكذا أيضاً عقل الإنسان يجمع بين النشاط الواعي والنشاط اللاواعي، وبين الخصائص الذكورية والأنثوية، وبين النظرة التفصيلية للأمور التي تهتم بالتفاصيل وبين النظرة الإجمالية للأمور التي لا تهتم إلا بالصورة الكلية، ويجمع بين التفكير المنطقي الذي يبحث عن الأسباب وراء النتائج وبين التفكير اللامنطقي الذي يربط كل شئ بكل شئ.
وكل تلك الوظائف تعمل معاً بشكل تكاملي بالطريقة نفسها التي تتكامل بها الحرارة والبرودة، والليل والنهار. ولعل أكثر الإكتشافات أهمية في عصرنا هي الإكتشافات المتعلقة بالعقل البشري وإمكاناته وقدراته والقوانين التي تحكم طبيعة عمله.
وفي هذا المقال سنلقي الضوء علي أحد أنشطة العقل البشري وهو النشاط العقلي الواعي أو ما يطلق عليه بـ”العقل الواعي”، والذي لم يحظى بالكثير من الإهتمام من قبل الكتاب والباحثين الذين لم يتحدثوا عنه بإسهاب، ربما بسبب إفتتانهم بالقدرات الكبيرة للعقل الباطن التي استحوذت علي كامل اهتمامهم وأبعدتهم عن العقل الواعي. وعلينا أولاً أن نلقي بعض الضوء علي الفرق بين كل من العقل الواعي والعقل الباطن حتي نتمكن من عرض الموضوع بشكل كامل وواضح.
وجدير بالذكر أننا عندما نتحدث عن العقل الواعي والعقل الباطن لا نقصد بذلك عقلين منفصلين، وإنما هو عقلاً واحداً فقط، وما العقل الواعي والعقل الباطن إلا أسماء نطلقها علي نوعين رئيسيين من أنواع النشاط العقلي.
المحتوى
الفرق بين العقل الواعي والعقل الباطن:
وأفضل صورة يمكننا أن نشبه بها العقل البشري من حيث النشاطين الواعي والباطن هي صورة الجبل الجليدي الذي يظهر بعض منه فوق سطح الماء، وبعضة الآخر مغموراً تحت سطح الماء. كما يظهر في الشكل التالي..
ويمثل الجزأ فوق سطح الماء النشاط العقلي الواعي، أما الجزأ الأكبر والمغمور تحت سطح الماء فيمثل النشاط العقلي اللاواعي أو ما يطلق عليه “العقل الباطن”.
والعقل الواعي يعمل بسرعة 40 بايت في الثانية، أو 2 مليون رسالة في الثانية الواحدة، ويستوعب معلومات من 2 إلي 5 معلومات في الثانية الواحدة. أما العقل الباطن فقدرته أكبر من ذلك بكثير حيث يعمل بسرعة 40 مليون بايت في الثانية، أو 20 مليون رسالة في الثانية الواحدة، ويستوعب ملايين المعلومات في الثانية الواحدة.
والعقل الواعي يمثل حوالي 10% فقط من مجمل النشاط العقلي للإنسان، أما العقل الباطن فيستحوز علي ال90% الباقيين.
والعقل الواعي هو المسؤل عن حياة الإنسان الشاعرة أو ما يمكن أن نطلق عليه دائرة الشعور، أما العقل الباطن فيمثل حياة الإنسان اللاشاعرة أو ما وراء الشعور.
وبرغم صغر نسبة تأثير العقل الواعي تلك علي حياة الإنسان فانه يطلق عليه “العقل القائد” لأنه هو الذي يحتوي علي الأعطية المقدسة التي أعطاها الله للإنسان ألا وهي حرية الإرادة، وهو الذي يقود العقل الباطن ويوجهه، أما العقل الباطن فإنه يطلق عليه “العقل التابع” لأنه يعمل كمساعد وخادم للعقل الواعي. لذلك من الضروري أن نتعرّف علي هذا القائد وأن نلقي الضوء علي صفاته ووظائفة.
وظائف العقل الواعي:
والعقل الواعي هو ما يصاحبنا في معظم أوقات استيقاظنا، وهو ما يساعدنا في عمليات إتخاذ القرارات اليومية بشأن ما نفعله، وما سوف نفعله، وكيف نفعله. وهو الذي يختار الأفكار، ويفكر بحرية، ويكوّن أفكاراً خارج الصندوق، وهو المسؤل عن الأعمال التي تحتاج إلي المنطق والحساب، وعندما تسأل نفسك: “أي قميص سأقوم بارتداءه اليوم؟”، أو ” أي طعام سنأكلة اليوم؟” فإن المسؤل عن هذا السؤال هو عقلك الواعي.
والعقل الواعي يقوم بأربعة وظائف أساسية هي:
1- وظيفة التحليل: بمعنى أنه ينظر إلي المشاكل ويحللها لمعرفة أسبابها ومكوناتها ويحاول إيجاد الحلول لها. وهو الجزء المسؤل عن إتخاذنا القرارات طوال اليوم مثل: ” هل سأقوم بفتح الباب؟ “، أو ” هل سأقوم بتغيير ملابسي؟ “، أو ” هل سأقوم بالذهاب إلي العمل؟ “، أو ” هل سأقوم بأكل شئ ما؟ “، وبالرغم من أنها سلوكيات تلقائية، إلا أننا نقوم بإتخاذ قرارات واعية حيال ما إذا كنّا سنقوم بفعلها أم لا. وتعتمد مهارتنا في إتخاذ القرارات بشكل عام علي هذه الوظيفة.
2- وظيقة المنطق: وهذا الجزء هو المسؤل عن التفكير المنطقي الذي يبحث عن العلّة وراء المعلول، والمعني يإيجاد أساس منطقي لكل شئ، وهذا هو الجزء فينا الذي يسأل دائماً بـ ” لماذا؟ “، ” لماذا تحدث الأشياء بهذه الطريقة؟ “، أو ” لماذا نتصرف بهذا الشكل؟ “. والتفكير المنطقي هو سبب تقدم العلوم، لكنه أحياناً يسبب مشكلات عندما يستخدم في العلوم الإنسانية.
وجدير بالذكر أن أكثر طرق العلاج النفسي تستخدم هذا الجزء وتهتم بإيجاد أسباب المشاكل النفسية، لكن هذا قد يسبب مشكلة في العلاج لأن التركيز علي أسباب المشاكل يعطيها الكثير من التصديق والقوة مما يصعّب عملية علاجها، والأفضل من هذا في بعض أنواع العلاج النفسي هو التركيز علي الحلول للمشاكل بدلاً من أسبابها.
3- وظيفة الإرادة: والوظيفة الثالثة من وظائف عقلنا الواعي هي حرية الإرادة، وهي المسؤلة عن إختيارنا للأشياء التي نختارها والتي تتداخل معها رغبتنا في الأشياء التي نرغبها، وبها يكون الإنسان حراً يختار ما يشاء، ويفعل ما يختار أن يفعله. وهي ملكة لا توجد في العقل الباطن الذي لا يختار ولا يخرج عن إطار برمجته. وأما قوة الإرادة فهي ذلك التصميم الشرس الذي يفتخر كل منّا بإظهاره. وكثيراً ما نستخدم قوة الإرادة وحدها للشروع في عمل تغييرات في حياتنا، ثم نكتشف بعد ذلك أن إرادتنا ضعفت وأن التغيير مؤقت وغير حقيقي، وذلك لأن قوة الإرادة لا تتغلب دائماً علي الجزء الأعمق فينا والخاص بإعتقاداتنا الراسخة والتي تحتاج إلي ما هو أكثر من قوة الإرادة وحدها.
4- وظيفة الذاكرة قصيرة المدى: وهي تلك الذاكرة القصيرة التي نستخدمها للإمساك بالمعلومات لفترة قصيرة فقط مثل أرقام هاتف لن نحتاج إلي استخدامها إلا مرة واحده، أو إسم شئ أو شخص نقابلة لمرة واحده فقط. والذاكرة قصيرة المدى هي المسؤلة أيضاً عن نسياننا لإسم شخص تعرفنا عليه منذ 20 دقيقة، ووظيفة هذا الجزء هي التخلص من المعلومات الغير ضرورية والتي لا نستخدمها كثيراً، أما إذا تكرر إستخدامنا لها فإنها تنتقل تلقائياً إلي نظام الذاكرة طويلة المدى والموجود بداخل العقل الباطن.
تلك هي قوة العقل الواعي ، وهي كما نرى قوة لا يستهان بها، فبدون التفكير المنطقي لما كانت هناك علوم، وبدون القدرة علي إتخاذ القرارات لن يتمكن الإنسان العيش آمناً، وبدون الذاكرة قصيرة المدى سيصاب الإنسان بالتشوش والجنون، وبدون حرية الإرادة لن يكون إلانسان حراً وبالتالي لن يكون إنساناً.
بقلم/ سيد صابر خبير تنمية بشرية
تم التحديث في 15 مارس,2016 بواسطة موسوعة الإدمان