الرغبة هي كل شيء، فهي التي تحرّكنا باستمرار، وهي التي تدفعنا إلي القيام بما نقوم به من أجل بلوغها، تجعلنا ننهض صباحاً من مضاجعنا، نذهب إلي أعمالنا، نتعلّم، نُعلّم، نتجمّل، نُبدع أشياءً جديدة، نتكاثر، نتصارع مثل الحيوانات، نهاجر مثل الطيور، نبني ما نرغب في بناءه، ونهدم ما لم يعد لنا رغبةً في وجوده. فهي المحرّك وهي الدافع لنا للعيش في عالم الواقع الذي نعيش فيه.
نكافح باستمرار من أجل رغباتنا، وعندما نبذل الجهود ونحصل علي ما رغبنا في الحصول عليه، يرتفع سقف مطالبنا، وتتولّد لدينا رغبات جديدة، رغبات كثيرة، تزداد باستمرار، وتزداد معها جهودنا التي نبذلها أو التي علينا أن نبذلها، ويزداد معها أيضاً تحرّكنا، وتصبح وتيرة حياتنا أسرع.
تجعلنا رغباتنا نركض خلفها باستمرار، لدرجة أننا نسبق أرواحنا ونتركها خلفنا، ونستمر في الركض، ولا مجال للتكاسل أو للتباطؤ في الركض، لا مجال للتوقف حتى لأخذ استراحة، لأن ذلك له ثمنه، حيث يجعل الرغبات أبعد، وأكثر، وأصعب. وعلينا أن نركض وأن نستمر في الركض، حتى نتجنّب مشاعر الخزي والألم والمعاناة الناتجة عن عدم بلوغنا رغباتنا.
ببساطة فإن رغباتنا تجلب إلينا متاعبنا ومعاناتنا، والرغبة والمعاناة مثل وجهين العملة المعدنية الواحدة، ولولا وجود الرغبة لما وجدت المعاناة، معاناة الكد في سبيل رغباتنا، ومعاناة المعارك التي نخوضها مع الآخرين من أجل رغباتنا، ومعاناة الحرمان مما نرغب فيه ونفتقده في حياتنا.
فالرغبة تعني الحرمان والحرمان يعني الرغبة، وعندما نرغب في شيء فان ذلك يعني أننا نعاني من حرمان هذا الشيء ونشعر بالحاجة إليه، وهكذا فان معنى الرغبة يتضمن الحرمان والحاجة والمعاناة. يقول “جبران خليل جبران”: ” وهل الشعور بالحاجة إلا الحاجة بعينها ؟!”.
وقديماً بحثت الفلسفة البوذية في هذه المسألة، وكان يبحث “بوذا” عن دواء لأشكال المعاناة التي يعانيها البشر مثل الموت والمرض والشيخوخة والقلق والحرمان، كان يبحث عن إكسير السعادة، ولكنه اكتشف أنه يعيش علي الأرض، وأن هناك مكان آخر خالي من المعاناة وهو النرفانا، واهتدى إلي أن الدواء الوحيد لمعاناة الحرمان والقلق الناتجة عن الرغبات هو الزهد والانقطاع عن العالم وعدم الرغبة في أي شيء، لكن من الذي يستطيع ان يزهد وينقطع عن العالم ولا يرغب في شيء؟!
ربما وجد بوذا دواءه الخاص الذي يخلّصه هو من بعض المعاناة في عالمه الخاص، لكنه لم يجد دواءً لمعاناة الآخرين في عالم بنوه وشيّدوه برغباتهم وحرمانهم، ولا سبيل أمامهم الا العيش فيه.
وعلي أي حال فان الرغبة وما تنطوي عليه من معاناة وحرمان جعلتنا نبني حضارة، حتى وان كان ذلك على حساب سعادتنا، وان كان لابد من دفع الثمن وتكبّد معاناة القلق والحرمان من أجل العيش بسلام – وليس العيش بسعادة – فما علينا فعله الآن هو البحث عن الطريق الأمثل لدفع الثمن، أي العيش بأقل قدر من المعاناة.
ولكي نفعل هذا علينا أن ننتبه ما استطعنا لرغباتنا وأن نتخيّر منها ما نستطيع تحمّل حمولته وتكبد عناء الوصول إليه من جهد ووقت وقلق وحرمان. وعلنا أن نعرف أن للرغبات أشكال وأنواع عديدة، منها ما هو واعي نستطيع ادراكه من خلال إدراكنا الواعي ونقوم باختياره بإرادتنا، ومنها ما هو لا واعي يعمل خارج حدود إدراكنا ووعينا، ولا نستطيع إدراكه واختياره، ومن الرغبات ما يستحث من داخلنا ويكون مصدره أهدافنا وطموحنا، ومنها ما يتم زرعه فينا بطرق لا إدراكية من أجل التحكّم فينا، ويكون مصدره أهداف وطموحات أناس آخرين لهم مصلحة في استغلالنا.
وكثيرةً هي الأشياء التي تعمل خارج حدود إدراكنا، وتفعل فعلها التحكٌمي فينا، دون أن نعرف عنها شيئاً، ولا عن الوعي المتطوّر، الذي وضعها لنا هناك.
إننا بحاجة إلي امتلاك رغباتنا طالما أننا من يتكبّد ثمنها من معاناتنا.
تم التحديث في 29 مايو,2019 بواسطة موسوعة الإدمان